أغنية (أيام المزبّن) كلمات مظفر النواب، تلحين وغناء
فؤاد سالم
كيف لكلامٍ عن عملٍ من أعمال مظفر النواب أن يمرّ دون
استحضار صيحة القهر..؟ تلك الصيحة التي تجسّدت أبلغ تجسيد في صيحة الريل (القطار)
بما يمثّله من رمز لقوة الغياب القاهرة ولكن أيضاً بما يوحي به من اغتراب وحنين.
وللقلب البشري أسلحة مقاومة لا تقلّ قوةً ومضاءً ضد كل أسباب القهر واشكاله.
الكلمة المشحونة بكل طاقات التعبير عن القهر الوجودي الشامل، اجتماعياً وسياسياً
وعاطفياً، ولكنها أيضاً الكلمة الصيحة والاحتجاج والثورة ضد كل عوامل الاستلاب.
فالكلمة عند مظفر النواب ليست لفظة منفردة ومجرّدة، بل هي جملة محمّلة بتاريخ هائل
من آلام وآمال الإنسان ونمط حياته. الكلمة هي سجلٌّ من الانطباعات والأحاسيس
والمشاعر والعواطف والأفكار لا يمكن استنفاد طاقتها التعبيرية دفعة واحدة
والاكتفاء بدلالتها اللغوية. لذلك لا يكتفي أو يرتوي منها القارئ أو السامع بمجرد
تداولها مرة واحدة، فلابد له أن يستزيد ويستزيد منها وفي كل مرة يرتشف معنيً
وجمالاً جديداً. فهي نبع لا ينضب، وومض لا يخبو، وخفق لا يتوقف، إنّها (روح شعب)
بالمعنى الهيجلي. من هنا كانت عملية الاستزادة منها (خاصة حين تكون مغنّاة)
كالاطلالة على العالم الداخلي لمن يتداولها. كلمة النواب ليست كلمة خارجية! بل
كلمة داخلية تتوغل عميقاً لتبلغ تلك البئر القابعة في أعماق النفس والأشياء.
عندما تشتهر أغنية جميلة ما مثل (الريل وحمد)، فإن ذلك قد يكون على حساب أغانٍ لا تقل روعةً وجمالاً
عنها. إن أغنية مثل (أيام المزبّن) ونصها هو
عبارة عن عدد من أبيات قصيدة بنفس العنوان للشاعر مظفر النواب، أضاف لها الفنان
المبدع فؤاد سالم بصوته الشجي ولحنه الراقص جمالاً موسيقياً جعلها معيناً من سحرٍ
يتموّج بلا ضفاف كمياه الأهوار، وفتنة متدفقة بلا انتهاء من منابع العشق وغدرانه.
تبدأ الأغنية بايقاعٍ سريع للحنٍ راقصٍ كمحاكاة نغمية لأجواء القصيدة ومطلعها (دِگــْـ راسَك ابــْگاع العِرِسْ/ واصْعَد اِمْراجفْ
للدفْ). فباعجاز
شعري تكثيفي يصور النواب حفلة عرسٍ ريفية وما يرافقها ويتخللها من فعاليات ومشاعر
وفرح. فقد كانت من مظاهر العرس الريفي الأساسية هي الراقصة الغجرية، وهي مركز
أنظار الحضور. ترقص فتنحني برأسها إلى الوراء بشدة حتى يكاد شعرها الطويل المنفلت
أن يلامس الأرض. ثم تعود لتستقيم بجذعها صعوداً بحركة بطيئة مع هزّ صدرها بسرعة
فائقة على ايقاع الطبلة واهتزاز الدف. إنّ نقل كل هذه التفاصيل البصرية والسمعية
بهذا الاقتصاد في الكلمات هي سر الاعجاز الشعري وكثافة وجماليات النص النوابي
عموماً. لابد هنا من التنويه بالفرق الدلالي والجمالي بين (متراجف) و (اِمْراجَف) العامية فدلالتها هنا حركة اهنزاز سريعة
ومستمرة (حركة اهتزاز صدر الراقصة) مما يجعل الكلمة عند النواب مشحونة بمعاني نفسية
ودلالات يصعب الالمام بها حين تُوضّح بالعربية الفصحى. وهذا الاختلاف يوضح اشكالية
عدم ذيوع نصوص النواب -عربياً- لـ (قصائده العامية) باللهجة العراقية الجنوبية
وتحديداً منطقة الأهوار، بنفس القدر الذي اشتهرت فيه نصوصه الفصحى. فهذه اللهجة قد
تشْكل على العراقي نفسه من منطقة أخرى في بعض مفرداتها، فكيف بالمتلقي العربي! هذه
النصوص محمّلة بالطاقات والشحنات النفسية والمعاني لما يعنيه الإنسان حين يقول
(شعر)، وبالتأكيد سيفلت الكثير من سحر هذا الشعر للمتلقي الذي ليس على دراية كبيرة
باللهجة التي كُتبت بها.
أما (المزبّن) و(اللف) فهما نوعان قديمان من أنواع السجائر الرخيصة (أيام المزبَّن گِضَنْ/تِگْضَنْ يا أيام اللف)
قد وظّفهما
الشاعر كرمز سياسي لحتمية انقضاء عهدٍ جائر مثلما انقضى العهد الذي قبله على قاعدة
دوام الحال من المحال. وتشبيهه الذي لا يخلو من أسىً لحياة الإنسان بتأكيد حقيقة
التغيّر (وتْدور
بينا ونلتف) حيث تدور بنا الدنيا
وتلفّنا كسيجارة اللف! وأي مصير ينتظر السيجارة غير الاشتعال؟!
عندما تغرب شمس الطبيعة تشرق شمس أخرى ، هي شمس العشق، فيلوذ الإنسان بفيءٍ
مهما بدا بسيطاً (فيّة گِصَبْ) - ولعنصري
القصب والماء معنى الحياة ذاتها في عالم الأهوار- إلاّ إنّهما يستشعران بين أحضان
الحب وشمس العشق بأجمل دفءٍ في الوجود. إن هذه البراعة في تشكيل الصورة الشعرية
وبهذه الكثافة وبهذا الزخم تصنع الدهشة التي تمنح شعر النواب تلك الجاذبية والفتنة
الساحرة التي تأسر القارئ، أو بالأحرى السامع فصوره الشعرية هي صور مسموعة بجرس معانيها
إضافة لجرس لفظها وصورها المرئية... هنا نجد أجمل ما يمكن تخيّله من صورة شعرية...
حبيبان يبتعدان وهما يتّكآن على غروب الشمس، ففعل (انْوچّي) هي اتّكاء المتعبين القاصدين الفيء-السكن والتلهّف للوصول (خَلْ نُوصَل) وايقاد شمس
العشق الحميمة بعد غروب الشمس الطبيعية. بهذه القدرة التعبيرية والتصويرية
والتركيبية تكتسب الصورة الشعرية عند النواب غناها وثراءها وتعدّد ألوانها وظلالها
وايحاءاتها الحسية التي لا يمكن إلاّ أن تأسر متلقيها وتسكنه. (ابْعِدْ يَبَعْد امْحَبِّتي/ انْوَچّي عله غروب الشمسْ/ خَلْ نوصل
الفيّة گِصَبْ/ واذْبحلك أمّيّة النَفِسْ).
إنّ تعدّد الأصوات يعطي لتشكيل القصيدة بعداً درامياً،
ويحقّق هدفاً آخر بمنتهى الأهمية لدى النواب، هدفاً ذا بعد فكري نابع من التزامه
السياسي والإنساني. فتارة يكون المتكلّم رجلاً ومرة تكون امرأة ويمنحهما نفس
الحقوق والحرية في التعبير عن مشاعرهما دون التمييز السائد في مجتمع ذي ثقافة
ذكورية يحتكر فيه الرجل سلطة الكلام.. فالمرأة تقول (عطشانه, وانته أُميّتكْ)..
والرجل يقول (هَم آنه أضوگـــ أمّـيِّــتچْ)..
وكما هو معروف فأن الضمير (ك) للمخاطب المذكر،
والضمير (چ) للمخاطب المؤنث في اللهجة العراقية. إن حضور مفردات مثل (حِنّه، عِرِسْ، بوسه، شوگـــْ، أُميّتكْ، أمّـيِّــتچْ -
ماءكَ، ماءكِ - أضوگــْ، عِشِگـــْ،... إلخ) ذات
دلالات جنسية مباشرة أو ايحاءات غير مباشرة قد تُغري قارئ قصيدة النواب لادراجها
تحت باب الأدب الإيروسي. وإن كان الإيروسي حاضراً بشكلٍ لافت، لكن هذا سيكون
اختزالاً يخلّ بالموضوعية كثيراً، على حساب شساعة عالم النواب الشعري الذي يحتضن
الوجود الإنساني الاجتماعي برمته، بكل سعته وتعدّد مظاهره وشجونه وشؤونه بطرائق
عيشه وعشقه وتمردّه.
قدرة النواب المدهشة، والتي تكاد تبدو وكأنّها عفوية ودون تكلّف لما يمتلكه
من مهارة حبْكٍ ونسْج الخاص والعام في نسيج واحد فائق النعومة والسطوع الجمالي حتى
ليخال المرء أنه لن يستطيع الفصل بينهما. وهذا واضح وجلي مثلاً في الأبيات (يِگْضَنْ وَارِدْ يا دِيرتي/ لحسْنِچْ
واموتَنْ علَ التِبِنْ/ شوگي إلچْ ، شوگــ الگِطه التايه وموعات الدهن/ هَم آنه أضوگــ
أمّـيّـِتچ/ واركض بزخّات المِزَنْ).. فالعاشق
(ولا يمكن الفصل بين عشق الديار وعشق الحبيب فهما عشقٌ واحد) على يقين من عودته
للديار بعد انقضاء ظروف القهر. الديار التي يصفها بالحسن و(اموتن) بمعنى التعبير
الدارج (اموت عليك- عليچ) أي اللهفة الشديدة والشوق إليها حتى الموت (تانيني يا ديرة هَلِي/ وخَلّ الرصاص اعْله الچف). ثم ينتقل بعبارة رشيقة تحتمل وصف الحالين حالة المشتاق
لدياره، تمهيداً لوصف الحالة الثانية الاشتياق المبرّح للحبيبة.. مشبهاً حالة
الشوق بحالة طير (الگِطَه) الذي لا يطيق ابتعاداً عن بيئته.. وبالتعبير المدهش (موعات الدهن) لوصف شدة
الشوق، إذْ تغدو روحه كالسمن المعرّض لحرارة الفراق لا يستطيع تماسكاً للحفاظ على قوامه
الصلب.. وبعدها ينتقل مباشرة إلى حالة شديدة الخصوصية وبحسية وبدلالة جنسية صريحة ودون
تلميح.. وهي بصيغة سؤال من يتمنى أمراً بقوة (هَم آنه
أضوگـــ أميَتچ- أأذوق ماءك- وصلك؟) إلى الحد
الذي سينقله إل حالة من الارتواء التام والمبلّل بماء النشوة مشبّهاً حاله بحال من
يركض تحت زخّات المطر!..
طويلة هي القصيدة (فالأغنية اقتصرت على بعض مقاطعها) بموضوعها وبمشاهدها وبصورها
وتستلزم صفحات للاستغراق في تفاصيلها وهي تنتهي بلسان المرأة مخاطبة حبيبها (موش انته صوچك يا شهم/ دهرك وگـــع
ناموسه) = ليس ذنبك أيها الشهم، لكن زمانك سقط
شرفه!. فسمة قصيدة النواب وكأنّها قصائد داخل قصيدة، فحسبنا إننا تناولنا ما أُختير
منها للأغنية.
إنها قصيدة-أغنية عن الإنسان وهو يسعى لتحقيق وجوده الحقيقي وحريته جسداً
وروحاً وينتزع حقه في حياةٍ تليق بانسانيته وتلبي شروطها، حتى وإن تطلّب الأمر منه
مقاومة رصاص القهر والنفي بكفّه العزلاء. فنصه ليس جميلاً وعميقاً فحسب بل إنّه
بمنتهى العذوبة واللذة والنشوة. وأي حديث عن قصيدة للنواب هو حديث طويل ومتشعّب
ومتنوع عن الإنسان والحياة، فالنواب يقدّم لنا درساً بليغاً في كيفية كتابة قصيدة
عظيمة!