السبت، 24 أغسطس 2013

الجمالي والفاجع


الجماليّ والفاجع (حدث في العامرية)

ما لايمكن تصديقه!

   كيف للعمل الفني ان يقارب الفاجعة؟سؤال إشكاليّ كبير، فالعمل الجمالي يلاحق الموضوع الجميل وتفاصيله. ولكن الموضوع إن كان مأساةً بحجم الفاجعة المنقضّة على الوجود الإنساني، تعصف به وتمحو شرط وجوده، تسحق الحياة ذاتها، فكيف للفن أن يحيا وهو يسجّل لحظات موت مرعب؟يحيل المكان الى كومة انقـاض، ويكثّف الزمان في لحظة كارثة، حدّ احتجاب أيّة رؤيةٍ وإمتناع أي قولٍ، ولا يشيع في الفضاء سوى النحيب والاختناق وانقطاع النفَس. كيف للإبداع الفني أنْ يكون امام هذا الانكسار والانمحاء الكامل لكل مظاهر الحياة، كيف ينتقي الفنان مفردةً، ويلتقط لقطةً، ويختارنغماً، وكيف يحبس حزنه وشهْقة ألمهِ، ليحيله إبداعاً.أمام كل هذا الدمار الناعق وجنون الموت((الصناعي))الذي ابتكرته الحياة الحديثة. أنه((الإحراج))الأعظم الذي يواجه الفنان، ولكنه لنْ يسمح للصمت وللموت أن يمنعا أبداعه. فالفن ليس حياتاً للفنان فحسب، إنّما هو نُصْبٌ خالدٌ وعلامة أنسانية لابـدّ من نَصْبها حيثما حلّت الشعوب أو مرّت. انه ذكرى وذاكرة الكلّ البشري، وليس خيارا فردياً للفنان.وها هو الفنان والموسيقار العراقي(نصير شمّه) امام امتحان تجسيدٍ فنيٍّ لمحنة شعبه في ليلٍ ألْيَلِ من ليالي بغداد خلال حرب الخليج الثانية، إنّها ليلة ملجأ العامرية الفاجعة في 13-2-1991.
   يبدأ الفنان بتنويعات نغميةٍ عذبةٍ عذوبةَ الحياة وإيقاعها، رغم ما تحفل به من عذابات ومن مشقّات، ويسترسل ببثّ انغامه اللذيذة، فننصت باسترخاء لايخلو من توجّس وارتباك يطال إيقاع الحياة العادية، فثمة ضربات تعلو ووجيب غامض يُسَرِّع نبض القلب. وفجأة يتعكّر الصفو، بصوت الرعب صوت صافرة الإنذار، نذير شؤم وتوقّع كارثة مقبلة. يعقب الصفيرالنائح تسارع اللحن بقلق ما قبل انفتاح الجحيم، اقدام تتقافز واجسام تتدافع وانفاس تتقطّع ودقات القلب تدوّي، لقد القيت كرة النار من طائر الموت واخترقت ما كانوا يظنّونه ملاذهم وملجأهم، الصراخ والآهات والأنّات كل ذلك يمكن تخيّله منفلتاً من بين أصابع الفنان، وصوت نشيش النار وهي تشوي الأجساد، وقوة التفجّر وهي تطبع الخلايا على الجدران الكونكريتية، الجدران التي يُفترض انّها كانت حاجزاً ضد القصف، صارت عائقاً يحول دون الهرب من هذا الفرن الذي تُشوى فيه الأجساد.. تقطّعت الأوصال وتفحّمت الأشلاء وانطبعت بقايا الأجساد بفعل العصف على الجدران. لن يقوى الا إله ٌعلى تمثّـل الهول الذي كان.. قبل انطفاء الحياة في ملجأ العامرية في 13-2-1991. وبعد ذلك تحلّ لحظة الصمت، اللحظة التي تفصل الأموات عن الاحياء، وتبدأ أنغام أخرى لن تكون كما كانت، إيقاع خافت، بطيء، متقطّع، إيقاعُ مَنْ يستيقظ من كابوس مروّع. أنْ تعرف بما جرى فذلك أمر، ولكن أنْ تصدّقه وتتقبله كواقع أكيد ومبرّر فهـذا أمرٌ أشبه بالمستحيل. ولن يستطيع الأحياء الذين فقدوا احبّتهم ان يستعيدوا نبض حياتهم المعتاد، إلاّ وهم يرفعـون وجوههم الغارقة بالدموع صوب السماء. أنغام تراتيل جنائزية، مشبعة بآهات الكائن البشري المقهور وبين الوجع والسلوى يتعثّر الفهم، ويتعذّر النوم بلا كوابيس، ويمتنع أي عذر لتبرير القتل وتمضي الموسيقى الى نهايتها بلحن جنائزي، يرافق الأموات الى مثواهم الأخير وممارسة طقوس الدفن. وبعد الدفن وفصل الأحزان، تستعيد الحياة إيقاعها، ولكن ليس الإيقاع ذاته فالنفوس قد تشبّعت بأحزان جديدة.  ويسألون العراقي لِمَ كلُّ هذا الحزن والآهات في اغانيكم؟! هذا بلد تمرّغ بأحزانه منذ بدئه حتى... لقد اجاد الفنان نصير شمّه بتأليفه، وابدع بمهارة عزفه، وخلّد لحظة حزينة من تاريخ شعبه. ولكلّ الشعوب لحظات مماثلة، ولكن المفارقة الفاجعة هي أن الكوارث المماثلة للشعـوب، كان القتلة هم الذين يقومون بتسديد تكاليفها، أمّا العراقيون فقد قاموا بأنفسهم وبأموالهم بتشييد أفران موتهم ومواضع قتلهم! وهم يظنّونها ملاجئ تقيهم رعب الموت المحلّق. ما أمهرك أيها الفنان، أهي أوتار عودك التي تعزف؟ أم أوتار قلب مشدود بالألم، وروح مفجوعة؟ 
                             
                                                       13-2-2013