الاثنين، 13 أكتوبر 2014

الليلة الكبيرة.. ومدينة منتصف القرن 20




   
قد يكون هذا الأوبريت (الليلة الكبيرة) كلمات صلاح جاهين والحان سيد مكاوي، من أمتع وأجمل وأشمل المقاربات الفنية، للحياة الشعبية للمدينة العربية في مستهل ومنتصف القرن 20.. إنها تسجل تلك اللحظة الفارقة بين عهدين.. عهد البساطة والعفوية للناس بمهنهم وحرفهم البسيطة ومتعهم الصغيرة واحتفالاتهم الشعبية ببساطتها وعفويتها. وبين عهد آخر التهمت فيه الحياة الصناعية الرأسمالية الكبيرة كل المدن وقضت على طابع خصوصيتها ومحليتها. وألقت بها في خضمّ العولمة الاقتصادية فنقضت كل أوجه نشاطاتها ما قبل الرأسمالية، وأودت بالطابع المحلي الحرفي  للنشاط الاقتصادي الاجتماعي للمدينة. وراحت المدينة تعيش عهداًً جديداً من الصراعات والتناقضات، وهيمن العالمي على المحلي في كلّ أوجه نشاطاتها وحياتها الأقتصادية والاجتماعية والثقافية والترفيهية.    

السبت، 13 سبتمبر 2014

أهل الفطن..


البصرة تمدّ بصرها صوب شموس البحر وتودّع النوارس.. وتمسح عن خدودها وجروحها حرقة الملح.
الموصل تتمعّن في المنحوتات الصخرية وتضرب رأسها بالجبال الشاهقة.
أمّا بغداد فجرح متجدّد عبر التاريخ، لم تقلع عن عادتها باستبدال طغاتها بالغزاة، وبقيت على دأبها بصبغ مياه دجلتها بحمرة ويلاتها القانية. تناولت بغداد كلّ الأقراص المسكّنة ولمْ تُشفَ من هلوستها المزمنة بعد..

درجة الحرارة العظمى 48 مئوية.
درجة الحرارة الصغرى 28 مئوية.
فأيّ اعتدالٍ ترتجي يا عقل؟.. وكيف تأتلف الأمزجة باختلاف الأقوام والأجناس، وتضارب المذاهب والأفكار.. يا لها من ((فطنة)) قاتلة أيّها الجاحظ؟! 
ما أعجب هذا السهل المرتعد بين ثلوج الجبال وشموس الصحارى.

الريح..
فرشاة لامرئيّة في يد رسّام مجنون.
ويقولون ليلى في العراق مريضة..
وماذا عن سعاد ومريم وشيرين.....؟
وماذا عن عشّاقهن الذين غيّبتهم الحروب؟ وشتّتهم الهرج والمرج؟
من بعيد يلوّح المهاجرون الناجون من المعمعة.. فلا الدموع تُكفكفُ، ولا الجروح تندملُ.. ويستمرّ نزيف التاريخ على امتداد الجغرافيا..

المريض المحتضر لا يعوده أحد..
عند الوفاة يحضر الجميع لتمزيق الوصية، والاقتتال، لانتزاع النصيب الأعظم من الإرث!..
نبيل محمود, ‏28 أغسطس 2014


الخميس، 24 يوليو 2014

محمود البريكان.. ناسك الشعر






   بقدر ما كان منكبّاً على الاشتغال المضني والاعتناء البالغ ببناءقصيدته، كان عازفاً وزاهداً، بشكل مؤسف، عن النشر وتقديم قصائده بشكل مجموعات شعرية، يسهل تداولها وانتشارها ودراستها، بصورة تليق بشاعر كبير، لما في أعماله من قيم جمالية وفكرية عالية. يقول عن مفهومه للشعر:

((الشعر هو ابن النزوع الإنساني، وموضوعه الأساس تجربة الوجود بكل شمولها. وهو تمثّل خاص لواقع التغيير في الزمن، وقلق المصير، والتأرجح بين الراهن والمنشود. إن الموضوع الكامن وراء موضوعات الشعر هو التوتر بين الحياة والموت. بين التحقق والضياع، وتلك العلاقة المتحولة بين الروح والعالم.)) 

   إن قراءة سريعة لقصيدته "البدوي الذي لم ير وجهه أحد"، مثلاً، وهي قصيدة (عظيمة!) تستحق قراءة مطولة ومتأنية، فهي قصة التيه! الذي يمزّقنا.. فلا البدوي الذي فينا قد مات! ولا استطعنا الخلاص من غيابه الحاضر فينا أبداً.. والبريكان في قصيدته هذه يوظّف، عبر صوره الشعرية البليغة، الدلالات العميقة التي يضمّنها في شعره، بحيث يكثّف بشكل مذهل جوهر الوجود في مقاربته لموضوع القصيدة. من خلال تناوله لجدلية الأبدي والعابر، الذي قصده في حديثه أعلاه (واقع التغيير في الزمن)..  فلو قرأنا هذه القصيدة اليوم لافترضنا أنها قد كُتبتْ للتوّ، ومن وحي أحداث عصرنا العربي الراهن! (وهذه القصيدة المنشورة في موقع أدب.. الموسوعة العالمية للشعر العربي، غير دقيقة، حيث حُذفت منها بعض الجمل الشعرية التي أخلّت كثيراً بموضوع القصيدة!). فقد عُرف البريكان بدقته وعنايته، في انتقاء مفرداته وصوره، في بناء نصه. بحيث أن  أي حذف بسيط، يخلّف اختلالاً كبيراً في قصيدته ويفقدها الكثير من معانيها ومضامينها وجمالياتها. لقد اعتمدت في اختيار هذه القصائد على كتاب..

 (محمود البريكان،متاهة الفراشة - قصائد مختارة، إختيار وتقديم باسم المرعبي، منشورات الجمل، كولونيا- ألمانيا 2003)


البدوي الذي لم ير وجهه أحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
لعلك يوماً سمعت عن البدوي العجيب
الذي كتب الله أن لا يموت
 وأن لا يرى وجهه أحد
(وجهه الأول المستدير البريء
الذي غضّنته المهالك وافترسته الحروب
وخطت عليه المآسي علاماتها).

نمت طبقات الزمان
على جلده.. فهو لا يتذكر صورته
صورة البدء
مستغرباً في مرايا المياه ملامحه الغامضة

أنا هو ذاك
أنا البدوي الغريب يجوب البوادي
ويطوي العصور ويعبر جيلاً فجيلا
 إلى آخر الأزمنة
أنا البدوي الذي لفظته الصحارى
الذي رفضته القصور
الذي أنكرته الشموس
الذي انطفأت جذوات النجوم
على محجريه

أنا البدوي المحمّل بالأوبئة
بذكرى الجنان التي اندثرت
 والبراري التي دفنتها الرياح
بصوت الينابيع في الأودية
ولون البروق على صخرة اللانهاية
أنا البدوي الذي نسخته التجارب
واستعبدت روحه المعرفة
وشلّت يديه الأعنّة
واختبرت صهوات الجياد إرادته
في الرحيل الطويل.
حفظتُ أغاني الزوابع عبر الأفق
وكنت امرأ القيس في التيه،
والمتنبي على الطرق النائية
وفي عزلة الروح كنت المعري رهين السجون الثلاثة،
وكنت دليل القوافل عبر المفاوز
وكنت الذي يوقد النار للطارقين
وكنت أنا الضيف والفارس المتوحد يأتي المضارب
محتجباً بلثام الغموض
وكنت أنا الزائر الهادئ المنزوي في المجالس
سمعت كلام النبي
وآمنت.. لكن رأيت الدماء التي انفجرت
وحروب السلالات
والقوة العارية تمارس لعبتها وتُغيّر ألوان راياتها
أنا الشاهد الأبدي
على الموت تسقط ذاكرتي في الظلام.
أقمت على صخرة الروح مملكتي
وفتحت حدود المقادير يوماً
فمن أين دبّ البوارُ إليّ؟
وفي أي مرحلة في الطريق
بدأت ضلالي؟
تلاشيت بين المقاصير
اعتصرتني المخادع
واستعبدتْ روحي الطيّبات
إلى أن تفتّت لحمي،
نسيت صهيل جوادي
ولم يكن السيف رهن يدي عندما اقتحم الآخرون
مداخل حصني الأخير
دخلت عصوراً من الخوف
بايعت في حضرة السيف والنطع
خضت حروب سواي
وما عدت أذكر مغزى حروبي
رأيت كلاب الملوك
تطاردني في المنام
رأيت الرجال
وهم يخدمون كلاب السلاطين.. أو يُضحِكون
الطواشيةَ المتخمين
وقوفاً وراء الموائد.
وكالببغاء التي هرمت
كنت أملك هذا اللسان ولا أتذكر شيئاً
.....
.....
تخاطبني الريح
أفتح عيني،
هل كان ذلك حلماً بعمق الزمان؟
وهل أحلم الآن؟
ها أنا في عالم يتفجّر حولي بايقاعه المتوحش
طاحونة بقوى الظلمات تدور بأسرع مما أفكر
عقول وراء المكاتب تبدع هندسة الموت
للمدن اللاهية.
صواريخ منصوبة باتجاه النجوم
جيوش تخوض حروباً خفية
أيقهر هذا الدوار؟ سأجمع أجزاء روحي
وأبحث ثانية عن مكاني واسمي ومسقط رأسي
وما ترك الدهر لي من سلالة أهلي
عسى أن يتم التعرف يوماً

أحس وراء صلابة جلدي
وراء قناعي القديم
وراء برود عظامي
أحس اختلاجة روح خفي
بصيص براءة
وبقيا من القوة الغاربة
ونازعة تُشبه البعث.

هذا الرميم
متى يتحرك؟
هذه العروق
متى تتدفق بالدم؟
هذي اليد الذابلة
متى تتحرر من موتها
متى يا إلهي؟
متى؟
(البصرة 1987)

احتفاء بالأشياء الزائلة
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أربع أيدٍ
تمتد إلى دفء النار معاً
وعيونٌ أربع
تتأمل طفلاً في مهده
مائدة
من زاد الفقراء
وحديث هادئ
الليل، وفيلم السهرة
أنسام الفجر ترف رفيف جناح فراشة
العشب اللين بعد الغيث
يبدو منتعشاً ونظيفاً
الموسيقى تتموج في الغرفة
عنوان كتاب ممتع
كأس الماء لظمآن
نعاس المتعب
لعب الأطفال وضجتهم
الذكرى تمرق في لحظة
خطة يوم قادم
نور الشمس
مجرد نور الشمس

أجمل ما في العالم
مشهده العابر
ومباهجه الصغرى.
طوبى لك
إن كنت بسيط القلب
فستفهم مجد الأرض
سحر الأشياء المألوفة
إيقاع الدأب اليومي
وجمال أواصر لا تبقى
وسعادة ما هو زائل!
(البصرة، آذار 1993)



الصوت
 ــــــــــــــــــ
صوت، لا يشبهه صوت
يأتي من أقصى البرية
صوت كنداء إله هالك
يطلق لعنته
كتحشرج وحش مقتول
كتناوح ريح
ليست من هذا العالم.
صوت يطعن قلب الليل.
في البدء ما كان أحد
يسمعه.
ثم اعتادوا
أن يمرق في ألق مدينتهم
لا يلتفت إليه أحد
لا يتساءل عنه أحد
فلماذا وحدك
يا هذا الشاعر
تسهر ليلياً
تنتظر الصوت الغامض؟
ولماذا
لا يمكن دفع الفكرة
أن هناك شدائد قادم
وكوارث ستقع؟
(شباط 1993)



الملوك
ـــــــــــــــــــــــــ
وجوههم مؤطّرة في لوحات المتاحف
وأسماؤهم مسطّرة في كتب التاريخ
وسيَرُهُم تتحول إلى قصص مسلية
تركوا للخدم ثياب نومهم وأحذيتهم المنزلية
وطرحوا تيجانهم للمتنافسين على الملك
وخلفوا ثرواتهم لورثة عاطلين
أمّا لحوم أجسادهم
فهي حصة دود الأرض.
(1997)




بكاء الأجنّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
في ظلامها الدامس
في غلافها الرجراج
في جحيمها السائل
تبكي دائماً
تشعر بالهدير في الخارج
بارتعادة العالم
باضطرابه

تغفو تفزّ دائماّ
على دوي الصرخات الغامض البعيد
تلتف حول رعبها
تبكي بلا انقطاع
الأجنّة الصغيرة
الأجنّة الشاحبة الصفر
التي ترفض أن تشاهد النور
ولا تريد أن تولد.
(1994)

لقد أوضح الشاعر عبد الرحمن طهمازي جوانب هامة في تجربة البريكان الشعرية وشخصيته، في كتابه (محمود البريكان، دراسة ومختارات، دار الآداب، بيروت 1989)..(أن يقول الشاعر ما يريد لا ما يراد منه هو سحب البساط من تحت المؤسسة التي تحتكر القول وتتسلّط به.... إنّ مبالغات الوصف وتوليد الصور هي من صميم "البوستر" الشعري الذي يرغب أن يصدّقه القوم...)(عبد الرحمن طهمازي، ص12)
(... محمود البريكان، فقد حمى شاعريته بأن وضع مسافة غير قابلة للتقليص بينه وبين النشاط الأعلامي، وهذا سبب كبير في حرية التطور الخاص، الحرية التي ترعى مبادرات الشعر...) (عبد الرحمن طهمازي، ص13)

لا ربح دائم! ما خسره البريكان على صعيد الشهرة والانتشار، قد كسب مقابله منجزاً شعرياً شديد التميّز والتفرّد..
أما قصيدة (حارس الفنار) فعنوانها قد صار بمثابة لقب ثانٍ للشاعر محمود البريكان !


حارس الفنار
ـــــــــــــــــــــــــ
أعددت مائدتي.. وهيّأت الكؤوس.. متى يجيء
الزائر المجهول؟
أوقدت القناديل الصغار
ببقية الزيت المضيء.
فهل يطول الانتظار؟
أنا في انتظار سفينة الاشباحِ تحدوها الرياح
في آخر الساعات. قبل توقف الزمن الأخير.
في أعمق الساعات صمتاً. حين ينكسر الصباح
كالنصل فوق الماء حين يخاف طير أن يطير
في ظلمة الرؤيا.

سأركب موجة الرعب الكبير
وأغيب في بحر من الظلمات ليس له حدود.
أنا في انتظار الزائر الآتي، يجيء بلا خطى
ويدق دقته على بابي. ويدخل في برود.
أنا في انتظار الغامض الموعود، تحمله الرعود
والريح.
يوشك أن يحل الوقت.
الأفق الطويل
خالٍ.
وليس هناك ظل سفينة.
يبدو الوجود
كالقوس مشدوداً، ولكن لاعلامةَ للرحيل...
***
سقطت فنارات العوالمِ دون صوتٍ. الرياح
هي بعدُ سيّدة الفراغ. وكلّ متّجه مباح.
وتغيّرت طرق الكواكب فوق خارطة السماء.
الآن تكذب ألف بوصلة تشير الى الفناء
وعلى مسار الوهم ترسم خطّها القلقَ القصي.
مامن مغامرة. هو التيه المجرّد في العراء!
أتذكّر الموتى. ولون دموعهم في الزمهرير.
( ولعلّهم كانوا جميعاً قبل ذلك أبرياء )
لم يهلكوا جوعاً ولا عطشاً، وإن كانوا ظماء
ماتوا بداء الوهمِ.
ليس لطائر البحر الجميل
شكل.
وقد لا ينزف الدم من قتيل.
***
أتذكّر المدن الخفيّة في البحار
أتذكّر الأموات. والسفن الغريقة. والكنوز
وسبائك الذهب المصفّى، والعيون اللامعات
وجدائل الشعرِ الجميلة في القرار
منشورة، وأصابع الأيدي المحطّمة النحيله
مفتوحة لا تمسك الامواج.
في الطرق الظليلة
في القاع، تنتثر النياشين المدوّرة الصقيله
وتقرّ أسلحة القراصنة الكبار.
ياطالما أسريت عبر الليل، أحفر في القرار
طبقات ذاك الموت. أتبعت الدفائن في السكون
أستنطق الموتى. أرى ماكان ثم وما يكون.
وأشمّ رائحة السكون الكامل الأقصى.
أريد
أن لا أمثّل من جديد
آلام تجربة العصور.
أن لا أُقطّع بالتوتّر، أو أُسمّر بالحضور.
أبصرت آدم في تعاسته، ورافقت الجيوش
في أضخم الغزوات. نُؤتُ بحمل آلاف النعوش
غنيت آلاف المواسمِ. همت في أرض الجمال
ووصلت أطراف المحال.
ورأيت كيف تدمّر المدن المهيبة في الخفاء.
شاهدت مايكفي. وكنت الشاهد الحيّ الوحيد
في ألف مجزة بلا ذكرى،
وقفت مع المساءْ
أتأمل الشمس التي تحمّر، كان اليوم عيد
ومكبّرات الصوت قالت: كلّ إنسان هنا
هو مجرم حتى يقام على براءته الدليل.
وسمعت أبواق الغزاة تضجّ في الليل الطويل.
ورأيت كيف تشوّه الأرواح جيلاً بعد جيل.
وفزعتُ من لمعان مرآتي: لعلي كالمسوخ
مسخ تقنّعه الظلال.
وعجبت منها دمعة في القلب تأبى أن تسيل.
والدمع مهما رقّ هل يكفي لمرثية الجمال؟
*** 
الوقت أدرك. رعشة في الريحِ تعكسها الصخور
الوقت أدرك. موجة تنداح من أقصى الدهور
الوقت أدرك. لستُ وحدي.
يعرف القلب الجسور
أنّ الرؤى تمّت، وأنّ الأفق يوشك أن يدور.
أنا في انتظار اللحظة العظمى.
سينغلق المدار -
سينغلق المدار
والساعة السوداء سوف تُشّل، تجمد في الجدار
أنا في انتظار
والساعة السوداء تنبض - نبض إيقاعٍ بعيد -
رقّاصها متأرجح قلق يميل الى اليمين
الى اليسار -
الى اليمين -
الى اليسار -
الى اليسار


(حاول محمود البريكان، بقوة الأفكار وشجاعة المشاعر، أن يستأنف دعواه خارج السرب، وحين كان الشعراء من جيله ينتقلون إلى أساليب جديدة بميكانيزم عام، استطاع البريكان أن يتأكد من تفردّه، ووصل إلى إيقاع آخر غير مشترك في "حوض السبيل" حيث تسرَّع التناظر والتكرار إلى زملائه) (عبد الرحمن طهمازي، ص16)

ويتجلّى تفرّده بشكل واضح في قصيدتيه (عن الحرية) و (انتماءات)، فهو يرى الحرية كجوهر وجودي وكبعد اساسي من أبعاد الإنسان، حرية الإنسان - الفرد المعتد بنفسه وليس الذائب في المجموع والمتخلّي عن الحرية باسم الأيديولوجيات التي أجّلت قضية الحرية، بل أقْصتها، إلى الحدّ الذي صار فيه تبرير الاستبداد، أحياناً، عملاً بطولياً لصالح المجموع. وهي قضية قلّما نصادفها، بهذا الفهم، في القصيدة (والثقافة عامة) العربية بعيداً عن اشتراطاتها الظرفية. فقضية الحرية لدينا، غالباً ما تكون خاضعة للمساومات والصفقات البراغماتية، دون الإقرار بضرورتها اللامشروطة.
بحيث فقد الجميع معنى الحرية حتى من كان سيّداً للعبيد! (أليس عبداً في الصميم سيّد العبيد؟)


عن الحرّية
ـــــــــــــــــــــــ
دعوتموني لاكتشاف قارة أخرى
معاً. وأنكرتم عليّ رؤية الخريطة.
أؤثر أن أبحر في سفينتي البسيطة
فإن تلاقينا فسوف نحسن الذكرى.
***
قدّمتمو لي منزلاً مزخرفاً مريح
لقاء أغنيّه
تطابق الشروط.
أؤثر أن أبقى
على جوادي. وأهيم من مهبّ ريح
إلى مهبّ ريح
***
جئتم بوجه آخر جديد
لي، متقن حسب المقاييس المثاليِّه
شكراً لكم. لا أشتهي عيناً زجاجيه،
فماً من المطاط.
لا ابتغي إزالة الفرق. ولا أريد
سعادة التماثل الكامل.
شكراً لكم. دعوه يبقى ذلك الفاصل
أليس عبداً في الصميم سيّد العبيد؟


انتماءات
ـــــــــــــــــــــ
على المشهدْ
أسمّر نظرتي. لكنّ لي حلمي..
ولائي هو للأجمل والأبعدْ.
***
وعبر الصخب اليوميّ أنمّي صوتيَ النّاصع
وألقي وهج الفكر على الواقع.
***
أرى التاريخ مرسوماً بأكمله على نظرهْ
وأسمعه – خفيّ النبض – في صوت.
فلا ترعبني الفكرهْ
ولا يسحرني الموت
***
وعبر أسى المحطّات،
وجوع الروح والجسدْ،
وعبر النور والظلّ،
أظلّ أنشد الأبدْ
***
وحيداً أنتمي، حرّاً، إلى فكره
أرادت نحتها الموتى (ولم تُنحتْ على صخره)
إلى صوت النبوّات البدائيّ.
إلى الثورات قبل تجمّد الرؤيا.
إلى الحبّ السماويّ الذي ترفضه الدنيا.
إلى البرق الذي يكشف وجه الدهر في لحظه.
إلى حقل الجمال المزهر الأسنى.
إلى الحلم الطفوليّ الذي يخبو ولا يفنى.
إلى جزء من الإنسان في الظلمة مفقود.
إلى ما يسقط الضوء على منطقة المعنى
وما ليس بمملوكٍ. وما ليس لمجدود.


(لقد تخلّص من الإطناب الذي يساعد عليه الشكل الايقاعيّ الجديد، هذا الإطناب الذي يدخل على أسلوب الشاعر بوساطة الإيقاع ويحرمه من التجديد.) (عبد الرحمن طهمازي، ص18)

فالتكرار والأطناب، هو بمعنى من المعاني، طقس من طقوس الخضوع لما كان وما هو كائن، وانمحاء أمام وطأة الماضي وسطوة الأسلاف، وتخلٍّ عن الإبداع والإبتكار..


في الرياح التاريخية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حين توارت جثث الأموات
واتّضح المشهد
تجسّدت فظاعة المأساة
عن إرثنا الأسود
***
ميراثنا المشؤوم جوع القبور
عار ضحايانا
ميراثنا كلّ عقاب العصور
عن كلّ ما كانا
***
أنا تخليّت أمام الضباع
والوحش، عن سهمي
لا مجد للمجد، فخذ يا ضياع
حقيقتي واسمي

(إنّ خلاف الشاعر مع أغلب شعراء جيله والجيل التالي، هو خلاف يتجاوز الشعر إلى الثقافة التي تتطلّب موقفاً حرّاً قابلاً للترويج. إنه يتجنّب ادّعاءات الألفاظ التي تتفاوت مع الحقيقة. إنّ موضوعه، الذي لا يساوم عدداً مجهولاً من المضامين الجاهزة، وان لغته، لهما من الغنى بحيث لا يحتاج أن يُدخل عليهما ما يعكّرهما لدواعي الاستعراض واستهلاك القول الشعري. لم يتحول الحذق إل حذلقة...) (عبد الرحمن طهمازي، ص21)

فالبريكان بحكم ثقافته الموسوعية المتنوعة، الموسيقية (خاصة الكلاسيكية) والتشكيلية والسينمائية، كل ذلك ترك أثراً واضحاً في بنية قصائده وتميّزه بشعرية خاصة به.

أسطورة السائر في نومه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أروي لكم عن كائن يعرفه الظلام
يسير في المنام أحياناً، ولا يفيق
أصغوا إليّ أصدقائي! وهو قد يكون
أيّ امرئ يسير في الطريق
في وسط الزحام.
وقد يكون بيننا الآن. وقد يكون
في الغرفة الأخرى، يمطّ حلمه العتيق!
***
اعتاد أن ينهض حين تقرع الساعه
دقاتها السبع، ويعلو صخب الباعه
يفتح مذياعه
يصلح شاربيه أو يدهن عارضيه
ويرسم ابتسامة غبراء خدّاعه
على زوايا شفتيه، ثمّ في عجل
يمضي إلى العمل
يمرّ بالناس الكثيرين وبالأشجار
فلا يرى شيئاً. وقد يبتاع في الطريق
جريدة يقرأ منها آخر الأخبار
وهو غريق بعد في سباته العميق...
***
اعتاد أن يقوم من منامه الطويل
بعض الليالي، ثمّ ينسلّ إلى مكان
يشرب في عتمته ما شاء من خمره
ثم يعود وهو لا يذكر كم مرّه
أضاءت الكأس لعينيه، وفي الصباح
لا يذكر السكره!
***
إنّ له وجهاً كوجه الناس أجمعين
لكن إذا رأيته يلهث في العتمه
تجده كالذئب الذي أيقظت الظلمه
أسراره، فهو مخيف خشن حزين
***
يجلس في أبهى المقاهي، ينفث الدخان
ويلعب الشطرنج، أو يندسّ في الزحام
يغشى بلا اهتمام
معرض الرسوم أو متاحف الآثار،
أو مسرحاً يعلن عمّا فيه بالأنوار.
وربّما رأى صديقاً فروى نكات
وقهقها، وربّما زارا معاً فتاة
تستقبل الزوّار!
وهو كظلٍّ باهت يسير أو ينهار
في ذلك السبات!
***
ماضيه لا يعرف إلاّ أنه بعيد!
بداية غامضة من حلم مديد
ليس له مدى.
حاضره ليس له صوت ولا صدى.
منشوده! يفلت من كفيّه ما يريد.
فهو هنا شبح
وكائن وحيد
لا يعرف الفرح!
وهو نداء ميّت أبح
في مجهل بعيد...
.... .... .... ....
***
يا أصدقائي هل عرفتم ذلك المخلوق
الشاحب الذي يجفّ صوته المخنوق؟
الكائن المخدّر الهائم في المنام؟
الكائن الذي تبثّ كفّه الصفراء
من حوله أشياء
ترعبه،
أشياء
لا يمكن القبض عليها مرّة أخرى!؟
يعرفه الظلام
تعرفه برودة الليل! وقد يكون
أيّ امرئ ترونه يسير في الطريق