الأربعاء، 2 يوليو 2014

بودلير والمدينة الحديثة



تخطيط لي بقلم الفحم لبودلير
______________________________________________________________


  لقد نزع بودلير عن الشعر تلك الهالة الرومانسية، وألقى به في قلب المدينة "الحديثة". مدينة  المصانع المعتمة الرطبة النتنة، جدرانها الملطخة بالسخام وسماؤها الملوّثة بالدخان، مدينة الأحياء الفقيرة الشاحبة، مدينة البغاء والحانات التي تغسل التعاسات بكحولها الرخيص الرديء، مدينة المساحيق والبهرجة الزائفة.. المدينة التي تقيء التفاهة والشرور، المدينة التي تتجمّع فيها كلّ تناقضات الحياة الحديثة.  ويحتشد فيها العمال والعاملات والأطفال، هذه الكتلة البشرية والحشود التي تلتهمهم المصانع نهاراً، وتلفّهم الأغطية القذرة ليلاً في الجحور كالجرذان.. المدينة التي يتقاتل فيها الجنود والثوار، وتمتلئ بالمغامرين والمقامرين، ويطفو على سطحها المبهرج والبرّاق برجوازيوها المتأنقون، ومرابيوها ورجال مالها الجشعون، وسيّاسيّوها اللامعون بمساحيق الزيف والكذب.. المدينة التي تغلي فوق مرجل على وشك الإنفجار.. هذه هي المدينة التي عاش فيها بودلير وعرفها وعشقها حتى الكره! هذه هي مدينة منتصف القرن التاسع عشر الأوربية.. المدينة البورجوازية.. بكلّ تناقضاتها.. فالمدينة الحديثة خلافاً، للمدينة القديمة، موقع للانتاج الصناعي الواسع الحديث، يتجاور فيها الجمال والقبح، السعادة والشقاء، الرضى والثورة، وفيها ولدت (قصيدة النثر) كوحدة متوترة تجمع بين الفوضى والنظام، والحرية والامتثال.. إنّها جماع كلّ توتّر يتجاذب حياة الإنسان الحديث.. وقد كان بودلير من أبرز أعلامها.

   وقد اخترت قصيدة بودلير (UNE CHAROGNE) "جيفة" أو "جثة" (حسب الترجمات الكثيرة  لاعمال بودلير إلى العربية وإن كانت ترجمة "جيفة" هي الأقرب لسياق القصيدة). هذه القصيدة الصادمة للذوق التقليدي السائد عن الشعر. ففي هذه القصيدة يتجلى ذلك الفهم البودليري للجمال، الذي لا يأنف من التقاط عناصر الجمال من أكثر جوانب حياة المدينة قبحاً. وأرى في القصيدة رؤية، قد يراها البعض مغالية لدور الشعر، في حفظ الجمال الذي يتحلّل ويتفسّخ ويلتهمه الدود في نهاية المطاف.. ولن يسلم جوهره من الذبول والفناء إلاّ بواسطة شعر الشاعر الذي يخلّد الجمال ويحفظه ويكمله من الذاكرة لينقذه من الضياع والنسيان... كما ورد في نهاية القصيدة:
  
(هكذا، يا فاتنتي ! فلتقولي للدود

الذي سينهشك بالقبلات،

إنّني حفظت الشكل والجوهر الربّانيّ

لحبيباتي المتحلّلات !)

وهنا أثبتُ ترجمتين للقصيدة.. الأولى بترجمة حنا الطيار وجورجيت الطيار، والثانية بترجمة رفعت سلام..
                   _____________________________

جيفة

ترجمة: حنّا الطيّار - جورجيت الطيّار


أتذكرين يا نفسي الشيء الذي رأيناه
ذات صباح صيفي منعش
على منعطف طريق ضيق
هذه الجيفة الكريهة الراقدة على سرير من حصى
ساقاها إلى الأعلى كالمرأة الشبقة
تحترق وتنفث السموم
وتكشف عن جوف مفعم بالروائح المنتنة
بقحة وبغير اكتراث
كانت الشمس تضيء فوق هذا العفن
كأنما تريد أن تنهي طهوه
لتعيد إلى الطبيعة العظيمة
أضعاف ما جمعته منها
كانت السماء تنظر إلى الهيكل الرائع كأنه زهرة متفتحة
والنتن من شدته كان يبعث على الإغماء فوق العشب
والذباب يطوف فوق هذا البطن المتعفن
الذي كانت تخرج منه كتائب الدود الأسود
منسابة كالسائل الكثيف
على جانبي هذه المِزَق الحية
كل ذلك كان يهبط ويصعد كالموج الهادر
أو يندفع وهو يحتدم
كأني بهذا الجسد المنتفخ بنسمة غامضة
يعيش ويتكاثر
هذا العالم كان يردد موسيقا غريبة
كأنها الماء الجاري والريح
أو حبة القمح يحركها ويديرها غربال
كانت الأشكال تمّحي كأن لم تكن إلا حلمًا
أو خطوطًا أولية تبطئ في الظهور
على لوحة منسية يحاول الفنان
إكمالها من الذاكرة.
ووراء الصخور كانت كلبة قلقة
تنظر إلينا بعين حانقة
وهي تتحين الوقت الملائم
لتأخذ من الجثة القطعة التي تركتها
فيا نجمة عيني وشمس دنياي
يا ملاكي وهواي
ستصبحين يا مليكة المفاتن
يا شبيهة بهذه الجيفة بعد تلقيك الأسرار الأخيرة
عندما ترحلين وترقدين تحت العشب والزهر
لتتحللي بين الرفات
عندها يا حسنائي قولي للديدان
التي ستلتهمك بقبلاتها
إني قد احتفظت بالشكل والجوهر الإلهي
لغرامياتي التي تحللت

                     ____________________________

جثة

ترجمة: رفعت سلام


فلتستعيدي - يا نفسُ - ما شهدناه
ذلك الصباح الجميل من صيف عذب:
فعند انعطافة درب ضيق كانت جثة شائهة
على سرير مليء بالحصى،
والساقان في الهواء، مثل امرأة شبقة،
تكتوي وتنز السموم،
كانت تفتح - بطريقة لامبالية وقحة -
بطنها المليء بالروائح الكريهة.
كانت الشمس تسطع على هذا العفن،
كأنّما من أجل طهيها تماماً،
ولتقدّم إلى الطبيعة العظيمة أضعافاً مضاعفة
ممّا كان كلاًّ مترابط الأوصال،
كانت السماء تشهد هذا الهيكل العظمي الرائع
مثل زهرة تتفتّح.
وكان النتن قويّاً، حتّى لتظنّ
أنّ الإغماء سينتابك على العشب.
الذباب يطنّ على هذه البطن المتحلّلة،
التي تخرج منها أفواج سوداء
من يرقات، تنساب مثل سائل كثيف
على امتداد هذه الأسمال الحيّة.
كلّ ذلك يهبط، يصعد مثل موجة،
أو ينطلق محتدماً،
يبدو أنّ الجثة، المنتفخة بريح غامضة،
كانت تعيش حياة مضاعفة.
وكان هذا العالم يصدر موسيقى غريبة،
مثل الماء الجاري والريح،
أو الحبوب التي يهزّها المغربل بحركة إيقاعيّة
ويديرها في غرباله.
امّحت الأشكال ولم يبق سوى حلم،
رسم أوّليّ بطيء في المجيء،
إلى اللوحة المنسيّة، ولا ينجزها الفنان
إلاّ من الذكرى وحدها.
ووراء الصخور، كلبة قلقة
تنظر إلينا بعين غاضبة،
في انتظار اللحظة التي تنهش فيها من الهيكل العظمي
القطعة التي تركتها.
ومع ذلك فستكونين شبيهة بهذا الوسخ،
بهذا العفن المفزع،
يا نجمة عيوني، يا شمس طبيعتي،
أنت، يا ملاكي ونزوتي !
حقّاً ! هكذا ستكونين، يا ملكة المحاسن،
بعد القرابين الأخيرة،
عندما تمضين، تحت العشب والازدهار العميم،
في التحلّل وسْط  العظام.
هكذا، يا فاتنتي ! فلتقولي للدود
الذي سينهشك بالقبلات،
إنّني حفظت الشكل والجوهر الربّانيّ
لحبيباتي المتحلّلات !